فصل: الفصل الثامن: في الفصاحة والبلاغة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.الفصل السابع: في الحقيقة والمجاز:

وهذا الفصل مهم كبير من مهمات علم البيان، لا بل هو علم البيان بأجمعه، فإن في تصريف العبارات على الأسلوب المجازي فوائد كثيرة، وسيرد بيانها في مواضعها من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى، وقد نبهنا في هذا الموضع على جملتها دون تفصيلها.
فأما الحقيقة فهي: اللفظ الدال على موضوعه الأصلي.
وأما المجاز فهو: ما أريد به غير المعنى الموضوع له في أصل اللغة وهو مأخوذ من جاز من هذا الموضع إلى هذا الموضع، إذا تخطاه إليه، فالمجاز إذاً اسم للمكان الذي يجاز فيه كالمعاج والمزار وأشباههما، وحقيقته هي الانتقال من مكان إلى مكان، فجعل ذلك لنقل الألفاظ من محل إلى محل، كقولنا: زيدٌ أسدٌ، فإن زيداً إنسان، والأسد هو هذا الحيوان المعروف، وقد جزنا من الإنسانية إلى الأسدية، أي عبرنا من هذه إلى هذه لوصلة بينهما، وتلك الوصلة هي صفة الشجاعة، وقد يكون العبور لغير وصلة، وذلك هو الاتساع، كقولهم في كتاب كليلة ودمنة قال الأسد، وقال الثعلب، فإن القول لا وصلة بينه وبين هذين بحال من الأحوال، وإنما أجرى عليها اتساعاً محضاً لا غير، ولهذا مثال في المجاز الحقيقي الذي هو المكان المجاز فيه، فإنه لا يخلو إما أن يجاز من سهل إلى سهل، أو من وعر إلى وعر كقولنا: زيد أسد، فالمشابهة الحاصلة في ذات بينهما كالمشابهة الحاصلة في المكان، والجواز من سهل إلى وعر كقولهم: قال الأسد، وقال الثعلب، فكما أنه لا مشابهة بين القول وبين هذين، فكذلك لا مشابهة بين السهل والوعر، وسيأتي كشف الغطاء عن ذلك وإشباع القول في تحقيقه في باب الاستعارة فليؤخذ من هناك.
وقد ذهب قوم إلى أن الكلام كله حقيقة لا مجاز فيه، وذهب آخرون إلى أنه كله مجاز لا حقيقة فيه، وكلا هذين المذهبين فاسد عندي.
وسأجيب الخصم عما ادعاه فيهما، فأقول: محل النزاع هو أن اللغة كلها حقيقة أو أنها كلها مجاز، ولا فرق عندي بين قولك إنها كلها حقيقة أو إنها كلها مجاز، فإن كلا الطرفين عندي سواء، لأن منكرهما غير مسلم لهما، وأنا بصدد أن أبين أن في اللغة حقيقة ومجازاً، والحقيقة اللغوية هي حقيقة الألفاظ في دلالتها على المعاني، وليست بالحقيقة التي هي ذات الشيء أي نفسه وعينه، فالحقيقة اللفظية إذاً هي دلالة اللفظ على المعنى الموضوع له في أصل اللغة، والمجاز هو نقل المعنى عن اللفظ الموضوع له إلى لفظ آخر غيره.
وتقرير ذلك بأن أقول: المخلوقات كلها تفتقر إلى أسماء يستدل بها عليها، كل منها باسمه، من أجل التفاهم بين الناس، وهذا يقع ضرورة لا بد منها، فالاسم الموضوع بإزاء المسمى هو حقيقة له، فإذا نقل إلى غيره صار مجازاً، ومثال ذلك: أنا إذا قلنا شمس أردنا به الكوكب العظيم الكثير الضوء، وهذا الاسم له حقيقة لأنه وضع بإزائه، وذلك إذا قلنا بحر أردنا به هذا الماء العظيم المجتمع الذي طعمه ملح، وهذا الاسم له حقيقة، لأنه وضع بإزائه، فإذا نقلنا الشمس إلى الوجه المليح استعارةً كان ذلك له مجازاً لا حقيقة، وكذلك إذا نقلنا البحر إلى الرجل الجواد استعارةً كان ذلك له مجازاً لا حقيقة.
فإن قيل: إن الوجه المليح يقال له شمس، وهو حقيقة فيه، وكذلك البحر يقال للرجل الجواد، وهو حقيقة فيه.
فالجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما نظري، والآخر: وضعي.
أما النظري: فهو أن الألفاظ إنما جعلت أدلة على إفهام المعاني ولو كان ما ذهبت إليه صحيحاً لكان البحر يطلق على هذا الماء العظيم الملح، وعلى الرجل الجواد، بالاشتراك، وكذلك الشمس أيضاً، فإنها كانت تطلق على هذا الكوكب العظيم الكثير الضوء، وعلى الوجه المليح، بالاشتراك، وحينئذ فإذا ورد أحد هذين اللفظين مطلقاً بغير قرينة تخصصه فلا يفهم المراد به ما هو من أحد المعنيين المشتركين المندرجين تحته، ونحن نرى الأمر بخلاف ذلك، فإنها إذا قلنا شمس أو بحر وأطلقنا القول لا يفهم من ذلك وجه مليح ولا رجل جواد، وإنما يفهم منه ذلك الكوكب المعلوم وذلك الماء المعلوم، لا غير، فبطل إذاً ما ذهبت إليه بما بيناه وأوضحناه.
فإن قلت: إن العرف يخالف ما ذهبت إليه، فإن من الألفاظ ما إذا أطلق لم يذهب الفهم منه إلا إلى المجاز دون الحقيقة، كقولهم الغائط فإن العرب خصص ذلك بقضاء الحاجة دون غيره من المطمئن من الأرض.
قلت في الجواب: هذا شيء ذهب إليه الفقهاء وليس الأمر كما ذهبوا إليه، لأنه إن كان إطلاق اللفظ فيه بين عامة الناس من إسكاف وحداد ونجار وخباز ومن جرى مجراهم فهؤلاء لا يفهمون من الغائط إلا قضاء الحاجة، لأنهم لم يعلموا أصل وضع هذه الكلمة وأنها مطمئن من الأرض، وأما خاصة الناس الذين يعلمون أصل الوضع فإنهم لا يفهمون عند إطلاق اللفظ إلى الحقيقة لا غير، ألا ترى أن هذه اللفظة لما وردت في القرآن الكريم وأريد بها قضاء الحاجة قرنت بألفاظ تدل على ذلك، كقوله تعالى: {أو جاء أحدٌ منكم من الغائط} فإن قوله: {أو جاء أحدٌ منكم من الغائط} دليل على أنه أراد قضاء الحاجة دون المطمئن من الأرض، فالكلام في هذا وأمثاله إنما هو مع علم أصل الوضع حقيقة والنقل عنه مجازاً، وأما الجهال فلا اعتبار بهم، ولا اعتداد بأقوالهم.
والعجب عندي من الفقهاء الذين دونوا ذلك على ما دونوه، وذهبوا إلى ما ذهبوا إليه.
وأما الوجه الوضعي: فهو أن المرجع في هذا وما يجري مجراه إلى أصل اللغة التي هي وضع الأسماء على المسميات، ولم يوجد فيها أن الوجه المليح يسمى شمساً، ولا أن الرجل الجواد يسمى بحراً، وإنما أهل الخطابة والشعر توسعوا في الأساليب المعنوية فنقلوا الحقيقة إلى المجاز، ولم يكن ذلك من واضع اللغة في أصل الوضع، ولهذا اختص كل منهم بشيء اخترعه في التوسعات المجازية.
هذا امرؤ القيس قد اخترع شيئاً لم يكن قبله، فمن ذلك أنه أول من عبر عن الفرس بقوله قيد الأوابد ولم يسمع ذلك لأحد من قبله.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم حنين: «الآن حمي الوطيس» وأراد بذلك شدة الحرب، فإن الوطيس في أصل الوضع التنور فنقل إلى الحرب استعارة، ولم يسمع هذا اللفظ على هذا الوجه من غير النبي وواضع اللغة ما ذكر شيئاً من ذلك، فعلمنا حينئذ أن من اللغة حقيقة بوضعه، ومجازاً بتوسعات أهل الخطابة والشعر.
وفي زماننا هذا قد يخترعون أشياء من المجاز على حكم الاستعارة لم تكن من قبل، ولو كان هذا موقوفاً من جهة واضع اللغة لما اخترعه أحد من بعده، ولا زيد فيه، ولا نقص منه.
وأما الفرق بينه وبين الحقيقة فهو أن الحقيقة جارية على العموم في نظائر، ألا ترى أنا إذا قلنا فلان عالم صدق على كل ذي علم، بخلاف: {واسأل القرية} لأنه لا يصح إلا في بعض الجمادات دون بعض، إذ المراد أهل القرية، لأنهم ممن يصح السؤال لهم، ولا يجوز أن يقال: واسأل الحجر والتراب، وقد يحسن أن يقال: واسأل الربع والطلل.
واعلم أن كل مجاز فله حقيقة، لأنه لم يصح أن يطلق عليه اسم المجاز إلا لنقله عن حقيقة موضوعة له، إذ المجاز هو اسم للموضع الذي يتنقل فيه من مكان إلى مكان، فجعل ذلك لنقل الألفاظ من الحقيقة إلى غيرها.
وإذا كان كل مجاز لا بد له من حقيقة نقل عنها إلى حالته المجازية فكذلك ليس من ضرورة كل حقيقة أن يكون لها مجاز، فإن من الأسماء ما لا مجاز له، كأسماء الأعلام، لأنها وضعت للفرق بين الذوات لا للفرق بين الصفات.
وكذلك فاعلم أن المجاز أولى بالاستعمال من الحقيقة في باب الفصاحة والبلاغة، لأنه لو لم يكن كذلك لكانت الحقيقة التي هي الأصل أولى منه حيث هو فرع عليها، وليس الأمر كذلك، لأنه قد ثبت وتحقق أن فائدة الكلام الخطابي هو إثبات الغرض المقصود في نفس السامع بالتخييل والتصوير حتى يكاد ينظر إليه عياناً، ألا ترى أن حقيقة قولنا زيد أسد هي قولنا زيد شجاع لكن فرق بين القولين في التصوير والتخييل وإثبات الغرض المقصود في نفس السماع، لأن قولنا: زيد شجاع لا يتخيل منه السامع سوى أنه رجل جريء مقدام، فإذا قلنا زيد أسد يخيل عند ذلك صورة الأسد وهيئته وما عنده من البطش والقوة، ودق الفرائس وهذا لا نزاع فيه.
وأعجب ما في العبارة المجازية أنها تنقل السامع عن خلقه الطبيعي في بعض الأحوال، حتى إنها ليسمح بها البخيل، ويشجع بها الجبان، ويحكم بها الطائش المتسرع، ويجد المخاطب بها عند سماعها نشوة كنشوة الخمر، حتى إذا قطع عنه ذلك الكلام أفاق وندم على ما كان منه من بذل مال أو ترك عقوبة أو إقدام على أمر مهول، وهذا هو فحوى السحر الحلال، المستغني عن إلقاء العصا والحبال.
واعلم أنه إذا ورد عليك كلام يجوز أن يحمل معناه على طريق الحقيقة وعلى طريق المجاز باختلاف لفظه، فانظر: فإن كان لا مزية لمعناه في حمله على طريق المجاز فلا ينبغي أن يحمل إلا على طريق الحقيقة، لأنها هي الأصل والمجاز هو الفرع، ولا يعدل عن الأصل إلى الفرع إلا لفائدة.
مثال ذلك قول البحتري:
مهيبٌ كحد السيف لو ضربت به ** ذرى أجإ ظلت وأعلامها وهد

ويروى أيضاً لو ضربت به طلى أجإ جمع طلية، وهي العنق، فهذا البيت لا يجوز حمله على المجاز، لأن الحقيقة أولى به، ألا ترى أن الذرى جمع ذروة، وهو أعلى الشيء، يقال: ذروة الجبل، أعلاه، والطلى: جمع طلية، وهي العنق، والعنق: أعلى الجسد، ولا فرق بينهما في صفة العلو هنا فلا يعدل إذاً إلى المجاز إذ لا مزية له على الحقيقة.
وهكذا كل ما يجيء من الكلام الجاري هذا المجرى، فإنه إن لم يكن في المجاز زيادة فائدة على الحقيقة لا يعدل إليه.

.الفصل الثامن: في الفصاحة والبلاغة:

اعلم أن هذا باب متعذر على الوالج، ومسلك متوعر على الناهج، ولم يزل العلماء من قديم الوقت وحديثه يكثرون القول فيه والبحث عنه، ولم أجد من ذلك ما يعول عليه إلا القليل.
وغاية ما يقال في هذا الباب: إن الفصاحة هي الظهور والبيان في أصل الوضع اللغوي، يقال: أفصح الصبح، إذا ظهر، ثم إنهم يقفون عند ذلك، ولا يكشفون عن السر فيه.
وبهذا القول لا تتبين حقيقة الفصاحة، لأنه يعترض عليه بوجوه من الاعتراضات: أحدها: أنه إذا لم يكن ظاهراً بيناً لم يكن فصيحاً، ثم إذا ظهر وتبين صار فصيحاً.
الوجه الآخر: أنه إذا كان اللفظ الفصيح هو الظاهر البين فقد صار ذلك بالنسب والإضافات إلى الأشخاص، فإن اللفظ قد يكون ظاهراً لزيد، ولا يكون ظاهراً لعمرو فهو إذاً فصيح عند هذا وغير فصيح عند هذا، وليس كذلك، بل الفصيح هو فصيح عند الجميع، لا خلاف فيه بحال من الأحوال، لأنه إذا تحقق حد الفصاحة وعرف ما هي لم يبق في اللفظ الذي يختص به خلاف.
الوجه الآخر: أنه إذا جيء بلفظ قبيح ينبو عنه السمع، وهو مع ذلك ظاهر بين، ينبغي أن يكون فصيحاً وليس كذلك لأن الفصاحة وصف حسن اللفظ، ولا وصف قبح.
فهذه الاعتراضات الثلاثة واردة على قول القائل إن اللفظ الفصيح هو الظاهر البين من غير تفصيل.
ولما وقفت على أقوال الناس في هذا الباب ملكتني الحيرة فيها، ولم يثبت عندي منها ما أعول عليه، ولكثرة ملابستي هذا الفن ومعاركتي إياه انكشف لي السر فيه، وسأوضحه في كتابي هذا وأحقق القول فيه، فأقول: إن الكلام الفصيح هو الظاهر البين، وأعني الظاهر البين أن تكون ألفاظه مفهومة لا يحتاج في فهمهما إلى استخراج من كتاب لغة، وإنما كانت بهذه الصفة لأنها تكون مألوفة الاستعمال بين أرباب النظم والنثر دائرةً في كلامهم، وإنما كانت مألوفة الاستعمال دائرة في الكلام دون غيرها من الألفاظ لمكان حسنها، وذلك أن أرباب النظم والنثر غربلوا اللغة باعتبار ألفاظها، وسبروا وقسموا، فاختاروا الحسن من الألفاظ فاستعملوه، ونفووا القبيح منها فلم يستعملوه، فحسن الألفاظ سبب استعمالها دون غيرها، واستعمالها دون غيرها سبب ظهورها وبيانها، فالفصيح إذاً من الألفاظ هو الحسن.
فإن قيل: من أي وجه علم أرباب النظم والنثر الحسن من الألفاظ حتى استعملوه، وعلموا أن القبيح منها حتى نفوه ولم يستعملوه؟
قلت في الجواب: إن هذا من الأمور المحسوسة التي شاهدها من نفسها، لأن الألفاظ داخلة في حيز الأصوات، فالذي يستلذه السمع منها ويميل إليه هو الحسن، والذي يكرهه وينفر عنه هو القبيح، ألا ترى أن السمع يستلذ صوت البلبل من الطير وصوت الشحرور، ويميل إليهما، ويكره صوت الغراب، وينفر عنه، وكذلك يكره نهيق الحمار، ولا يجد ذلك في صهيل الفرس، والألفاظ جارية هذا المجرى، فإنه لا خلاف في أن لفظة المزنة والديمة حسنة يستلذها السمع، وأن لفظة البعاق قبيحة يكرهها السمع، وهذه اللفظات الثلاثة من صفة المطر، وهي تدل على معنى واحد، ومع هذا فإنك ترى لفظتي المزنة وديمة وما جرى مجراهما مألوفة الاستعمال، وترى لفظ البعاق وما جرى مجراه متروكاً لا يستعمل، وإن استعمل فإنما يستعمله جاهل بحقيقة الفصاحة أو من ذوقه غير ذوق سليم، لا جرم أنه ذم وقدح فيه ولم يلتفت إليه، وإن كان عربياً محضاً من الجاهلية الأقدمين، فإن حقيقة الشيء إذا علمت وجب الوقوف عندها، ولم يعرج على ما خرج عنها.
وإذن ثبت أن الفصيح من الألفاظ هو الظاهر البين، وإنما كان ظاهراً بيناً لأنه مألوف الاستعمال، وإنما كان مألوف الاستعمال لمكان حسنه، وحسنه مدرك بالسمع إنما هو اللفظ، لأنه صوت يأتلف عن مخارج الحروف، فما استلذه السمع منه فهو الحسن، وما كرهه فهو القبيح، والحسن هو الموصوف بالفصاحة، والقبيح غير موصوف بفصاحة، لأنه ضدها لمكان قبحه، وقد مثلت ذلك في المثال المتقدم بلفظ المزنة والديمة ولفظة البعاق، ولو كانت الفصاحة لأمر يرجع إلى المعنى لكانت هذه الألفاظ في الدلالة عليه سواء: ليس منها حسن ومنها قبيح، ولما لم يكن كذلك علمنا أنها تخص اللفظ دون المعنى.
وليس لقائل هاهنا أن يقول: لا لفظ إلا بمعنى، فكيف فصلت أنت بين اللفظ والمعنى؟ فإن لم أفصل بينهما، وإنما خصصت اللفظ بصفة هي له، والمعنى يجيء فيه ضمناً وتبعاً.
الوجه الثاني: أن وزن فعيل هو اسم فاعل من فعل بفتح الفاء وضم العين نحو كرم فهو كريم، وشرف فهو شريف، ولطف فهو لطيف، وهذا مطرد في بابه، وعلى هذا فإن اللفظ الفصيح هو اسم فاعل من فصح فهو فصيح، واللفظ هو الفاعل للإبانة عن المعنى، فكانت الفصاحة مختصة به.
فإن قيل إنك قلت: إن الفصيح من الألفاظ هو الظاهر البين، أي المفهوم ونرى من آيات القرآن الكريم ما لا يفهم ما تضمنه من المعنى إلا باستنباط وتفسير، وتلك الآيات فصيحة لا محالة، وهذا بخلاف ما ذكرته.
قلت: لأن الآيات التي تستنبط وتحتاج إلى تفسير ليس شيء منها إلا ومفردات ألفاظه كلها ظاهرة واضحة، وإنما التفسير يقع في غموض المعنى من جهة التركيب، لا من جهة ألفاظه المفردة، لأن معنى المفردة يتداخل بالتركيب، ويصير له هيئة تخصه، وهذا ليس قدحاً في فصاحة تلك الألفاظ لأنها إذا اعتبرت لفظةً لفظةً وجدت كلها فصيحة: أي ظاهرة واضحة.
وأعجب ما في ذلك أن تكون الألفاظ المفردة التي تركبت منها المركبة واضحة كلها، وإذا نظر إلها مع التركيب احتاجت إلى استنباط وتفسير، وهذا لا يختص به القرآن وحده، بل في الأخبار النبوية والأشعار والخطب والمكاتبات كثير من ذلك.
وسأورد هاهنا منه شيئاً، فأقول: قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون» وهذا الكلام مفهومةٌ مفردات ألفاظه، لأن الصوم والفطر والأضحى مفهوم كله، وإذا سمع هذا الخبر من غير فكرة قيل: علمنا أن صومنا يوم نصوم، وفطرنا يوم نفطر، وأضحانا يوم نضحي، فما الذي أعلمنا به مما لم نعلمه؟ وإذا أمعن الناظر نظره فيه علم أن معناه يحتاج إلى استنباط، والمراد به أن إذا اجتمع الناس على أن أول شهر رمضان يوم كذا، ولم يكن ذلك اليوم أوله، فإن الصوم صحيح، وأوله هو ذلك اليوم الذي اجتمع الناس إليه، وكذا يقال في يوم الفطر، ويوم الأضحى.
ولهذا الخبر المشار إليه أشباه كثيرة تفهم معاني ألفاظها المفردة، وإذا تركبت تحتاج في فهمها إلى استنباط.
وأما ما ورد من ذلك شعراً فكقول أبي تمام:
ولهت فأظلم كل شيءٍ دونها ** وأضاء منها كل شيءٍ مظلم

فإن الوله والظلمة والإضاءة كل ذلك مفهوم المعنى، لكن البيت بجملته يحتاج في فهمه إلى استنباط، والمراد به أنها ولهت فأظلم ما بيني وبينها، لما نالني من الجزع لولهها، كما يقول الجازع: أظلمت الأرض علي: أي أني صرت كالأعمى الذي لا يبصر، وأما قوله وأضاء منها كل شيء مظلم أي وضح لي منها ما كان مستتراً عني من حبها إياي.
وكذلك ورد قول أبي عبادة البحتري في منهزم:
إذا سار سهباً عاد ظهراً عدوه ** وكان الصديق بكرةً ذلك السهب

فإن السير والسهب والظهر والعدو والصديق كل ذلك مفهوم المعنى، لكن البيت بمجموعه يحتاج معناه إلى استنباط، والمراد أن هذا المنهزم يرى ما بين يديه محبوباً إليه، وما خلفه مكروهاً عنده، لأنه يطلب النجاة فيؤثر البعد مما خلفه والقرب مما أمامه، فإذا قطع سهباً وخلفه وراءه صار عنده كالعدو، وقبل أن يقطعه كان له صديقاً: أي يطلب لقاءه ويحب الدنو منه.
فانظر أيها المتأمل إلى ما ذكرته من هذه الأمثلة حتى يثبت عندك ما أردت بيانه.
وأما البلاغة فإن أصلها في وضع اللغة من الوصول والانتهاء، يقال: بلغت المكان، إذا انتهيت إليه، ومبلغ الشيء منتهاه، وسمي الكلام بليغاً من ذلك، أي أنه قد بلغ الأوصاف اللفظية والمعنوية.
والبلاغة شاملة للألفاظ والمعاني، وهي أخص من الفصاحة، كالإنسان من الحيوان، فكل إنسانٍ حيوانٌ، وليس كل حيوان إنساناً، وكذلك يقال: كل كلام بليغ فصيح، وليس كل كلام فصيح بليغاً.
ويفرق بينها وبين الفصاحة من وجه آخر غير الخاص والعام، وهو أنها لا تكون إلا في اللفظ والمعنى بشرط التركيب، فإن اللفظة الواحدة لا يطلق عليها اسم البلاغة، ويطلق عليها اسم الفصاحة، إذ يوجد فيها وصف المختص بالفصاحة، وهو الحسن، وأما وصف البلاغة فلا يوجد فيها، لخلوها من المعنى المفيد الذي ينتظم كلاماً.

.مسألة تتعلق بهذا الفصل:

هل أخذ علم البيان من ضروب الفصاحة والبلاغة بالاستقراء من أشعار العرب أم بالنظر وقضية العقل؟ الجواب عن ذلك أنا نقول، لم يؤخذ علم البيان بالاستقراء، فإن العرب الذين ألفوا الشعر والخطب لا يخلو أمرهم من حالين: إما أنهم ابتدعوا ما أتوا به من ضروب الفصاحة والبلاغة بالنظر وقضية العقل، أو أخذوه بالاستقراء ممن كان قبلهم.
فإن كانوا ابتدعوه عند وقوفهم على أسرارا اللغة ومعرفة جيدها من رديئها، وحسنها من قبيحها فذلك هو الذي أذهب إليه.
وإن كانوا أخذوه بالاستقراء ممن كان قبلهم، فهذا لا يتسلسل إلى أول من ابتدعه ولم يستقره، فإن كان لغة من اللغات لا تخلو من وصفي الفصاحة والبلاغة المختصين بالألفاظ والمعاني، إلا أن للغة العربية مزية على غيرها، لما فيها من التوسعات التي لا توجد في لغة أخرى سواها.

.مسألة أخرى تتعلق بهذا الفصل أيضاً:

هل علم البيان من الفصاحة والبلاغة جارٍ مجرى علم النحو أم لا؟ الجواب عن ذلك أنا نقول: الفرق بينهما ظاهر، وذاك أن أقسام النحو أخذت من واضعها بالتقليد، حتى لو عكس القضية لجاز له ذلك، ولما كان العقل يأباه ولا ينكره، فإنه لو جعل الفاعل منصوباً والمفعول مرفوعاً قلد في ذلك كما قلد في رفع الفاعل ونصب المفعول، وأما علم البيان من الفصاحة والبلاغة فليس كذلك، لأنه استنبط بالنظر وقضية العقل، من غير واضع اللغة، ولم يفتقر فيه إلى التوقيف منه بل أخذت ألفاظ ومعانٍ على هيئة مخصوصة وحكم لها العقل بمزية من الحسن لا يشاركها فيها غيرها، فإن كل عارف بأسرار الكلام من أية لغة كانت من اللغات يعلم أن إخراج المعاني في ألفاظ حسنة رائقة يلذها السمع ولا ينبو عنها الطبع، خيرٌ من إخراجها في ألفاظ قبيحة مستكرهة ينبو عنها السمع، ولو أراد واضع اللغة خلاف ذلك لما قلدناه.
فإن قيل: لو أخذت أقسام النحو بالتقليد من واضعها لما أقيمت الأدلة عليها وعلم بقضية النظر أن الفاعل يكون مرفوعاً والمفعول منصوباً؟ فالجواب عن ذلك أنا نقول: هذه الأدلة واهية لا تثبت على محك الجدل، فإن هؤلاء الذين تصدوا لإقامتها سمعوا عن واضع اللغة رفع الفاعل ونصب المفعول من غير دليل أبداه لهم، فاستخرجوا لذلك أدلة وعللاً، وإلا فمن أين علم هؤلاء أن الحكمة التي دعت الواضع إلى رفع الفاعل ونصب المفعول هي التي ذكروها.

.الفصل التاسع: في أركان الكتابة:

اعلم أن للكتابة شرائط وأركاناً: أما شرائطها فكثيرة، وهذا التأليف موضوع لمجموعها، وللقسم الآخر من الكلام المنظوم، وليس يلزم الكاتب أن يأتي بالجميع في كتاب واحد، بل يأتي بكل نوع من أنواعها في موضعه الذي يليق به، كما رأيناه فيما يأتي من هذا التأليف.
وأما الأركان التي لا بد من إيداعها في كل كتاب بلاغي ذي شأن فخمسة: الأول: أن يكون مطلع الكتاب عليه جدة ورشاقة، فإن الكاتب من أجاد المطلع والمقطع، أو يكون مبنياً على مقصد الكتاب، ولهذا الباب يسمى باب المبادي والافتتاحات فليحذ حذوه، وهذا الركن يشترك فيه الكاتب والشاعر.
الركن الثاني: أن يكون الدعاء المودع في صدر الكتاب مشتقاً من المعنى الذي بني عليه الكتاب.
وقد نبهنا على طرف من ذلك في باب يخصه أيضاً، فليطلب من هناك، وهو مما يدل على حذاقة الكاتب وفطانته، وكثيراً ما تجده في مكاتباتي التي أنشأتها، فإني قصدته فيها وتوخيته بخلاف غيري من الكتاب، لأنه ربما يوجد في كتابة غيري قليلاً، وتجده في كتابتي كثيراً.
الركن الثالث: أن يكون خروج الكاتب من معنى إلى معنى برابطة، لتكون رقاب المعاني آخذة بعضها ببعض، ولا تكون مقتضبة، ولذلك باب مفرد أيضاً يسمى باب التخلص والاقتضاب، وهذا الركن أيضاً يشترك فيه الكاتب والشاعر.
الركن الرابع: أن تكون ألفاظ الكتاب غير مخلولقة بكثرة الاستعمال ولا أريد بذلك أن تكون ألفاظاً غريبة، فإن ذلك عيب فاحش، بل أريد أن تكون الألفاظ المستعملة مسبوكة سبكاً غريباً، يظن السامع أنها غير ما في أيدي الناس، وهي مما في أيدي الناس، وهناك معترك الفصاحة التي تظهر فيه الخواطر براعتها، والأقلام شجاعتها، كما قال البحتري:
باللفظ يقرب فهمه في بعده ** عنا ويبعد نيله في قربه

وهذا الموضع بعيد المنال، كثير الإشكال، يحتاج إلى لطف وذوق وشهامة خاطر، وهو شبيه بالشيء الذي يقال: إنه لا داخل العالم ولا خارج العالم، فلفظه هو الذي يستعمل، وليس بالذي يستعمل أي أن مفردات ألفاظه هي المستعملة المألوفة، ولكن سبكه وتركيبه هو الغريب العجيب.
وإذا سموت أيها الكاتب إلى هذه الدرجة، واستطعمت طعم هذا الكلام المشار إليه، علمت حينئذ أنه كالروح الساكنة في بدنك التي قال الله فيها: {قل الروح من أمر ربي} وليس كل خاطر براقٍ إلى هذه الدرجة ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ومع هذا فلا تظن أيها الناظر في كتابي أني أردت بهذا القول إهمال جانب المعاني، بحيث يؤتى باللفظ الموصوف بصفات الحسن والملاحة ولا تكون تحته من المعنى ما يماثله ويساويه، فإنه إذا كان كذلك كان كصورة حسنة بديعة في حسنها إلا أن صاحبها بليد أبله، والمراد أن تكون هذه الألفاظ المشار إليها جسماً لمعنى شريف، على أن تحصيل المعاني الشريفة على الوجه الذي أشرت إليه أيسر من تحصيل الألفاظ المشار إليها.
ويحكى عن المبرد رحمه الله تعالى أنه قال: ليس أحد في زماني إلا وهو يسألني عن مشكل من معاني القرآن أو مشكل من معاني الحديث النبوي، أو غير ذلك من مشكلات علم العربية، فأنا إمام الناس في زماني هذا، وإذا عرضت لي حاجة إلى بعض إخواني وأردت أن أكتب إليه شيئاً في أمرها أحجم عن ذلك، لأني أرتب المعنى ثم أحاول أن أصوغه بألفاظ مرضية فلا أستطيع ذلك.
ولقد صدق في قوله هذا، وأنصف غاية الإنصاف.
ولقد رأيت كثيراً من الجهال الذين هم من السوقة أرباب الحرف والصنائع، وما منهم إلا من يقع له المعنى الشريف، ويظهر من خاطره المعنى الدقيق، ولكنه لا يحسن أن يزاوج بين لفظتين.
فالعبارة عن المعاني هي التي تخلب بها العقول، وعلى هذا فالناس كلهم مشتركون في استخراج المعاني، فإنه لا يمنع الجاهل الذي لا يعرف علماً من العلوم أن يكون ذكياً بالفطرة واستخراج المعاني إنما هو بالذكاء لا بتعلم العلم.
وبلغني أن قوماً ببغداد من رعاع العامة يطوفون بالليل في شهر رمضان على الحارات، وينادون بالسحور، ويخرجون ذلك في كلام موزون على هيئة الشعر وإن لم يكن من بحار الشعر المنقولة عن العرب، وسمعت شيئاً منه فوجدت فيه معاني حسنة مليحة ومعاني غريبة، وإن لم تكن الألفاظ التي صيغت بها فصيحة.
وهذا الركن أيضاً يشترك فيه الكاتب والشاعر.
الركن الخامس: أن لا يخلو الكتاب من معنى من معاني القرآن الكريم والأخبار النبوية، فإنها معدن الفصاحة والبلاغة، وإيراد ذلك على الوجه الذي أشرت إليه في الفصل الذي يلي هذا الفصل من حل معاني القرآن الكريم والأخبار النبوية أحسن من إيراده على وجه التضمين، وتوخي ذلك في كل كتاب عسرٌ جداً، وأنا انفردت بذلك دون غيري من الكتاب، فإني استعملته في كل كتاب، حتى إنه ليأتي في الكتاب الواحد في عدة مواضع منه، ولقد أنشأت تقليداً لبعض الملوك مما يكتب من ديوان الخلافة، ثم إني اعتبرت ما ورد فيه من معاني الآيات والأخبار النبوية فكان يزيد على الخمسين، وهذا لا أتكلفه تكلفاً، وإنما يأتي على حسب ما يقتضيه الموضع الذي يذكر فيه، وقد عرفتك أيها الكاتب كيف تستعمل ما تستعمله من ذلك في الفصل الذي يأتي بعد هذا الفصل فخذه من هناك.
وهذا الركن يختص بالكاتب دون الشاعر، لأن الشاعر لا يلزمه ذلك، إذ الشعر أكثره مدائح، وأيضاً فإنه لا يتمكن من صوغ معاني القرآن والأخبار في المنظوم كما يتمكن منه في المنثور، ولربما أمكن ذلك في الشيء اليسير في بعض الأحيان.
وإذا استكملت معرفة هذه الأركان الخمسة وأتيت بها في كل كتاب بلاغي ذي شأن فقد استحققت حينئذ فضيلة التقدم، ووجب لك أن تسمي نفسك كاتباً.